بسم الله الرحمن الرحيم
ان البحث حول مسائل الاقتصاد الاسلامي، له ابعاد ومجالات مختلفة ومتسعة ومن الطبيعي اننا لا نستطيع - مع هذا المجال المحدود - ان نستوعب كل ذلك. ولهذا فما يشكل حديثنا هذا ليس الا عرض لمحة من الاقتصاد الاسلامي على اساس ما جاء في القرآن الكريم بهذا الصدد.
1 - ان القرآن الكريم هذا الكتاب السماوي العظيم لم ينزل لغرض شرح النظريات والقوانين العلمية وتبيينها بل ان الهدف الرئيس منه هو الهداية والتربية وسوق الانسانية نحو الاهداف العالية التي خلقت لأجلها. وان هذا الموضوع ليرتبط اكثر من غيره بفلسفة الانسان ومعرفته عن نفسه وعن العالم والمبدأ والمصير ولهذا نجد القرآن الكريم عموما يتحدث في اطار المسائل ويطرح العلاقات العلمية والقانونية بالقدر الذي يقرب الانسان الى هذا الهدف.
2 - ان ما جاء في القرآن الكريم بلحاظ المسائل الاقتصادية انما يتعلق في الواقع بالمذهب الاقتصادي لا علم الاقتصاد، بمعنى القرآن لم يتحدث مطلقا عن العلاقات الاقتصادية أو علاقات العرض والطلب والقيمة او علل التضخم والركود الاقتصادي، ذلك لأن مثل هذه المسائل وهي علمية محضة ورهينة بكشف الواقع الخارجي سواء كانت في مجال الطبيعة والفيزياء او في مجال المجتمع والتاريخ يتم الحصول عليها بواسطة قوة العقل والتجربة الانسانية.
اما ما يكتسب اهمية اكبر لدى الانسان ولا يمكن الحصول عليه من خلال العلم والتجربة فهو المذهب الاقتصادي التي يشمل المسائل التقيمية والفلسفية والتربوية والحقوقية في مجال المجتمع والعلاقات الاقتصادية المسيطرة عليه ولذلك نجد القرآن باستمرار يتحدث عن هذه المسائل، وحتى لو تحدث عن العلاقات الاقتصادية فانه هنا ايضا يمنحها نظرة مذهبية عقائدية وهذا ما نلاحظه في مستقبل البحث.
3 - ان الآيات التي نتعامل معها - من الزاوية الاقتصادية - في القرآن الكريم تتجه - في اكثر الموارد - الى الكليات الحقوقية والاتجاهات والاهداف والاسس والمعالم الاساسية للنظام الاقتصادي الاسلامي اما التفصيلات الحقوقية وفروع المباحث الاقتصادية الاسلامية فلا يمكن الحصول عليها كلها من الآيات الشريفة وانما علينا بهذا الصدد ان نلجأ الى المصدر الآخر للحقوق الاسلامية أي السنة والاحاديث الشريفة للرسول الأكرم (ص) والأئمة الطاهرين، ولما كان بحثنا يقتصر على النظام الاقتصادي الاسلامي بالقدر الذي يعكسه القرآن الكريم فاننا سوف لن ندخل في تلك البحوث المفصلة ونرجئها الى بحث اكثر اتساعا وعمومية حول الاقتصاد والاسلام.
4 - والنقطة الاخرى التي يجب التوجه اليها بكل تأكيد هي مسألة الدور التي تقوم به النظرة الكونية واسلوب التفكير الذي يمنحه القرآن للمسلم في مجال النظام الاقتصادي الذي نرمي اليه.
ذلك اننا لا نستطيع ان نفصل الجوانب الاجتماعية للانسان عن المحتوى العقائدي ونوع معرفته مطلقا. والحقيقة ان عقيدة الانسان هي التي تصوغه من الداخل وتصنع بالتالي ظروف ايجاد المجتمع وروابطه واهدافه الاجتماعية المطلوبة. والعقيدة هي لوحدها القادرة على ان تفسر وتوجه كل القوانين والمقررات الاجتماعية المتعلقة بالسلوك والحركة الانسانية، وعلى اساس من النظرة الكونية يمكن للقوانين والنظم الاجتماعية ان تقع موقع القبول لدى افراد المجتمع وتحصل بالتاي على ضمانات التنفيذ، وبالتالي فان النظرة الكونية هي التي تمتلك الدور الرئيس الحاسم الذي يؤثر بشكل مباشر او غير مباشر في ايجاد الانسجام العام والايصال الى الاهداف المنشودة لدى مذهب اقتصادي معين.
بل ان كل النظم الاجتماعية للاسلام تعتمد اكثر من أي شيء آخر على هذا البعد وهو بعد اساسي مضموني بلا ريب، فهو عبر هذا الاسلوب من التفكير، والقناعات القائمة على اساس مثل هذه المسائل العقائدية والتربوية يسعى دائما لتأمين افضل سند للتنفيذ الدقيق للمسائل الاقتصادية في ظل نظام اقتصادي عام.
هذا مع ملاحظة ان الافراد مع الاحتفاظ بحريتهم واختيارهم يلتزمون بالعمل بوظائفهم القانونية في المسائل الاقتصادية - باعتبار ذلك عبادة قائمة على اساس العقيدة - دون اية حاجة الى الضغط والاجبار من الحكومة، وانِما نجدهم يتبرعون لتحقيق الاهداف الاقتصادية بل نجدهم يقدمون حاجات الناس والمجتمع على مسألة تأمين رفاههم الشخصي. الامر الذي نشاهد له في طول التاريخ الماضي شواهد كثيرة في المجتمعات الاسلامية. رغم عدم توفر المجال الاسلامي المطلوب تماما وحكومة الطواغيت غالبا - ولا يمكننا فعلا استعراض بعض منها -
ومع وضوح النقاط السابقة نعمد الى بيان ملامح النظام الاقتصادي الاسلامي وفقا لما ورد في القرآن الكريم، ويمكن تقسيم البحث الى الفصول التالية:
الفصل الاول - المعايير والاهداف
الفصل الثاني - نوع الملكية في النظام الاقتصادي
الفصل الثالث - الحرية الاقتصادية
الفصل الرابع - التحديد من الحرية الاقتصادية
الفصل الخامس - الضرائب الاسلامية ودورها في التوزيع المجدد
الفصل السادس - دور الدولة في الاقتصاد الاسلامي
يعتبر التوحيد والايمان بالغيب اول معيار ومبنى واهمها في النظرة الكونية الاسلامية.
«.... الذين يؤمنون بالغيب....»
(البقرة - 3)
وعلى اساس من هذا المعيار يرى الانسان نفسه وكل شيء في عالم الوجود متعلقا تعلقا تاما بالله تعالى.
ووفقا لهذه النظرة ينقسم الوجود الى قسمين: عالم الغيب وعالم الشهادة «... عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك ...» (الزمر - 46) حيث تسير امور عالم الشهادة والمادة وفق هدي من عالم الغيب والله تعالى «ولله غيب السماوات والأرض واليه يرجع الامر كله...» (هود - 123) «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو...» (الانعام - 59)
وان ادراك كنه هذه العلاقة وسائر مسائل عالم الغيب خارج عن نطاق قدرة الذهن البشرى ذلك لأنه نفسه في هذا العالم داخل في اطار عالم الشهادة والتعبير الوحيد الذي يمكن طرحه في البين عن هذه العلاقة هو ان يقال انها علاقة الاصل والفرع وعلاقة (الكنه) و(الجلوة) و(المظهر) و(الحقيقة) و(الظل) ذلك لأن عالم الغيب هو الاصل والحقيقة وعالم الشهادة هو عالم الجلوة والظل فهو متعلق دائما وتحت سيطرة مشيئة عالم الغيب ومفتقر اليها. وكل الاشياء وما يجري في عالم الشهادة انما هي تحت رقابة من عالم الغيب وهداية منه فلا استقلال لها ابداً، وهذا هو اهم الاصول التي اكد عليها الانبياء العظام خلال التاريخ واعتمدوا عليه وان الانبياء جاءوا اساساً ليركزوا هذا الايمان وهذه القناعة في ذهن الانسان وقلبه، وهو واقع تحت تأثير ما يجرى في عالم الشهود والمادة ويرتفعوا بمعرفة الانسان وادراكه من المحسوس الى المعقول ومن المشهور والواضح والمحدود الى الغيب والخفاء واللامحدود وعلى هذه الرؤية نفسها تفسر حياة الانسان بشكل آخر حيث تحتل مرحلة الشهود قدرا ضئيلا جداً من حياته وعمره الواقعي، وتنقسم الحياة الى قسمين هذه الدنيا المحدودة العابرة والآخرة اللامحدودة الخالدة حيث تنفتح امام الانسان آفاق جديدة وتولد مفاهيم جديدة عن الربح والخسارة هي اسمى من مستوى المفهوم العادي للمنافع في هذا العالم، ولا تعود الحياة تعني منافع ايام من هذه الدنيا بل المهم والأكثر بقاء هي الحياة المستقبلية، وحينئذ يكون لكل عمل وسلوك يصدر من الانسان في هذا العالم تركيبتان تركيبة شهودية وحدوثية في هذا العالم وتركيبة غيبية وبقائية في ذلك العالم الذي سيصل اليه الانسان حيث تعود عليه النتيجة حسنة كانت او سيئة «يومئذ يصدر الناس اشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» (الزلزلة: 6-8)
ان هذه النظر ليست ذات قيمة فلسفية وعقائدية سامية فحسب بل هي كذلك من الوجهة الاجتماعية حيث انها السبيل الوحيد لحل التضاد بين المصالح الفردية والاجتماعية ذلك انه على اساس من هذه المعرفة والنظرة الكونية نجد - أولا - ان الافراد يتحررون من سلطة الآلهة الوهمية، والأصنام هنا المادية والطبقية والصنفية والخرافية وتنتفي كل الالهية المصطنعة، وتنهار حاكمية أي مالك سوى الله المتعال، وينجو المجتمع من بلية الغربة عن الذات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي - وثانيا - علينا من خلال ذلك ان نحصل على النقطة المشتركة بين المنافع الفردية والعامة للمجتمع حيث يجد الافراد في اطارها ان منافعهم الشخصية تكمن في المنافع العامة، ويقدمون على تقديم المنافع العامة على منافعهم الخاصة لكي يضمنوا لانفسهم منافع شخصية على المدى الطويل وبشكل افضل ومضاعف. ولذا نجد القرآن الكريم يعبر عن هذه الانماط من التيار والانفاق - وهي في الواقع بمعني تقديم المنافع الاجتماعية للاخرين على بعض المنافع الشخصية للانسان وفيها بالخصوص يكمن حل التناقض - يعبر عنه بالتجارة والربح.
«يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم» (الصف: 10 / 11)
«وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واقرضوا الله قرضا حسنا» (المزمل / 20)
«ان تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم» (التغابن / 17)
يعد الانسان في التصور الكوني القرآني موجوداً مختاراً ليكون محور الارتباط بين عالم الغيب وعالم الشهادة وهو لوحده الحامل لثقل هذه الامانة والمسؤولية والبالغ لمقام الخلافة الالهية الرفيع في هذا العالم.
«انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان...» (الأحزاب / 72)
«واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة ..» (البقرة / 30)
ويستفاد من هذه الايات ان الله تعالى اطلق على النوع الانساني صفة خلافته ذلك لأن هذه الايات تتحدث عن بدء خلق الانسان ولا تركز على خلقة شخص معين، والشاهد الاخر هو نوع فهم الملائكة حيث وجهوا سؤالاً استنكارياً وركزوا على طينة هذا الانسان وخصلته المادية وراوا ان عناصر هذا المخلوق الجديد تؤدي الى الفساد في الارض ولما لم يكونوا مطلعين على الوجه الاخر للعملة وهو البعد المعنوي والطينة الالهية الكامنة فيه والتي تقبل التربية والتكامل بهداية من رب العالم فقد اعترضوا بذلك الاعتراض وعندما قدم ادم (ع) امتحانه الاول في قبال الملائكة اعترفوا بجهلهم في رحاب الله واسفوا على سؤالهم غير الطبيعي، هذا السؤال وهذا التصور الانكاري بنفسه شاهد على ان النظر كان متوجها للنوع الانساني ذلك لانه لم يصدر سفك دم او فساد من ادم ابي البشر نفسه وسوف لن يصدر منه ذلك. على ان صفة سفك الدماء والفساد انما تنسبان للجمع ولا تناسب لهما مع الفرد، وعلى هذا يستفاد ان النوع الانساني هو مورد العناية والكرامة الالهية - في هذه الايات - وعلة هذه الكرامة هي ايضا تلك الفطرة والنفخة الالهية التي اوجدت فيه فمنحته الالتزام والعقل والاختيار:
«غفاذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» (الحجر 10/29)
«ولقد كرمنا بني ادم..» (الاسراء 17/70)
«ثم انشأناه خلقا اخر، فتبارك الله أحسن الخالقين» (المؤمنون 23/14)
وعلى اساس هذا المعيار تترتب في معرفة الانسان مواضيع لها اهميتها نشير الى بعض هنا:
(1) - وفقا لهذا المعيار يدرك الانسان اصالته وفضله وشرفه على كل المخلوقات في عالم الطبيعة والوسائل المادية والانتاجية ويتسامى الى مقام الخلافة الالهية المقدس الرفيع ويعود موجوداً مجهزاً بالفطرة الواعية الساعية نحو الحقيقة الحائز على مقام الخلافة الالهية من خلال اراداته واختياره الذي أهله لذلك وهي اسمى وارقى فكرة انسانية لا نجد لها مثيلا في اية مدرسة وخصوصاً في المذاهب المادية التي يهبط في معاييرها الانسان على مستوى الحيوانات وتصوغه وسائل الانتاج او العلاقات الانتاجية.
(2) - وعلى اساس هذا المعيار تقوم كل العلاقات الاجتماعية الانسانية على اساس عبوديته لله وكونه خليفة له، كما ان دور الخليفة لله هو دور عام لجميع الناس، فلا يوجد فيه أي تفصيل لاي شخص او قوم او شعب او طبقة وفئة في مجالها فجميعهم متساوون في هذا المقام ومتاخون ولا يبقى في هذا الاطار الا معيار واحد هو ملاك التقييم والتفضيل وهو معيار التقوى والقرب الى الله والقيام بحق الخلافة له تعالى.
(3) - كما انه على اساس من هذا المعيار يعود الانسان موجوداً متعهداً مسؤولاً ذلك ان الخلافة والامانة بنفسها تستلزم ان يقو م بمهمة اعمار الارض من الوجهة الطبيعية والاجتماعية وان يستفيد من كل القوى الطبيعية التي وضعها الله تحت تصرفه وسخرها له في المسير الصحيح العادل ويقيم المجتمع الصالح الذي يصل فيه الافراد جميعاً الى مقام الخلافة الالهية.
«هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها..» (هود 11/61)
ووفقا لهذا المعيار فان العمران في الارض والخراب والافساد والظلم فيها كليهما ينشأن من الانسان لا من وسائل الانتاج فالانسان هو الذي يصنع المجتمع ويحرك التاريخ»
«ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس» (الروم 30/41)
(4) - ان للانسان جانبين أصليين، جانب ارضي هو سر ميله للشهوات والماديات ووجه اشتراكه مع سائر الحيوانات، وجانب الهي ومعنوي يتضمن الميول المتعالية نحو الكمالات الاخلاقية والقيم السامية وبه يتميز عن سائر الحيوانات.
«ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» (الشمس 91/7 - 8)
وعلى اساس من المعيار المذكور يعد كل تناقض واختلاف اجتماعي انساني في المجتمع والتاريخ يرجع الي التناقض الداخلي بين هذين الجانبين فكل النزاعات والصراعات التاريخية والاجتماعية تكمن في هذه النقطة لا في وسائل الانتاج ان وسائل الانتاج ما هي الا الات يصنعها الانسان على أثر طاقاته الذاتية ليحصل من خلال على قدرة وامكان اكبر، فوسائل الانتاج يمكنها ان توفر القدرة وتهيئ الفرصة اما الذي يصنعها والذي يستخدمها سلباً او ايجاباً ويكون تجاهها اميناً او خائناً، يصمد او يتخاذل في قبالها انما هو الانسان نفسه.
ولهذا فان سبيل حل هذه النزعات ايضا يجب ان يبدأ من اعماق الافراد وما لم يحل النزاع بين قوتي الشهوة والعقل الكامنتين في اعماق الذات فان أي حل ظاهري وخارجي سوف يبقى عقيماً وبلا قيمة لذا نجد القرآن يقيم علاقة قوية بين اعماق الانسان وظاهره ويجعل حركة الافرا د في المجتمع والتاريخ تابعة للحركة والتكامل الداخلي لهم:
«ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد /11)
(5) - في بعض الآيات وعلى اساس من هذا المعيار توجد اشارة لطيفة جدا الى العلاقة بين المذهب واقامة الاحكام الالهية العادلة بين عمران الطبيعة ونمو الانتاج:
«ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (الأعراف /96)
«ولو انهم أقاموا التوراة والانجيل وما انزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم...» (المائدة /66)
هذه الايات وآيات كثيرة غيرها تبين بكل صراحة انه على مستوى عدالة العلاقة بين افراد الانسان وتطابقها مع المعايير الالهية والاوامر السماوية تكون انعكاساتها على الطبيعة والانتفاع بها حيث يكون استخدامها اكثر انسجاماً، وعلى العكس من ذلك فانه كلما كانت العلاقة الاجتماعية علاقات ظالمة بعيدة عن الفطرة والاهداف الالهية السامية كان المجتمع بالتالي في بؤس وانحطاط. وهذا الامر تشهد له التجربة التاريخية الانسانية ذلك اننا نرى انه متى ما كانت الاساليب الفرعونية والطاغوتية هي المسلطة على المجتمعات فانها لم تترك اثرا سوى التفريط بقوى المجتمع وتمزيقها والتفرقة بين المجاميع والفئات، واهدار الامكانات والثروات.
«وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا» (القصص /77)
«ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والارض والله بما تعملون خبير» (آل عمران /180)
«فلما اتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون» (التوبة /76)
«..وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين» (البقرة /177)
«المال والبنون زينة الحيوة الدنيا..» (الكهف /46)
وبمقتضى الايات الانفة وكثير من الايات الشريفة الاخرى تعد الثروة والرفاه في ثقافة القرآن مجرد وسيلة باتجاه التكامل الانساني ووصوله الى الاهداف العليا والمقدسة التي خلق لاجلها، ولم ينظروا اليها كهدف مطلقاً، ولا تستحق ذلك، فالقرآن يرى ان ما يشكل هدفاً لخلق هذا العالم هو العبادة والتقرب الى الله والتي يتم من خلال تربية الروح الانسانية وتنمية الاستعدادات والقدرات الفطرية المعنوية والاخلاقية في الانسان:
«وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون» (الذاريات /56)
والعبادة الي طرحت كهدف للخلقة ليست خصوص الصلاة والصوم وانما هي تمتلك مراحل ومصاديق مختلفة يمكنها بالمعنى الجامع ان تستوعب كل النشاطات الانسانية في هذا العالم.
إلاّ انه وفي نفس الوقت الذي تعد فيه الدنيا من وجهة نظر القران مقدمة للاخرة ولذا فان التعلق بها والوقوع في اسر الثروة والمال يعد نقطة انهيار وانحطاط انساني، ولما كان الانسان خلق في هذا العالم وعبر سعيه في هذا العالم يجب ان ينمو ويتجه نحو اهدافه النهائية السامية فان الاقتصاد والرفاه من الضروريات له ذلك ان الانسان الذي يحاول ان يجعل هذه الدنيا ميدان نشاطه يحتاج الى الغذاء والمسكن واللباس، فله غرائز وميول مختلفة ميول مادية واجتماعية وحاجات مختلفة يجب ان يستجيب لها بحد معتدل.
ومن هنا نجد الاسلام في نفس الوقت الذي يذم الدنيا والمال والثروة ويعتبرها خاوية ولهواً ولعباً وخيالاً وغفلة، لا يدعو الى الرهبانية والكهنوت بل ويعتبرها حراماً يخالف الفطرة ومن البدعة
«... ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها...» (الحديد /27)
وفي القرآن آيات كثيرة تشير الى النعم الدنيوية وتعتبرها من فضل الله ورحمته بعباده.
«... ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم..» (النور /32)
«هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعاً..» (البقرة /29)
«ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» (لقمان /20)
«والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون» (النحل /5)
«والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يو م ظعنكم...» (النحل /80)
«والله جعل لكم من بيوتكم سكنا» (النحل /80)
«والله جعل لكم مما خلق ضلالا وجعل لكم من الجبال ؤأكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم..» (النحل /81)
«وتحمل أثقالكم الى بلد لم تكونوا بالغيه الا بشق الانفس» (النحل /7)
«الله الذي جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون، ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون» (غافر /79 - 80)
«ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون» (النحل /6)
كما نجد القرآن الكريم يدفع الانسان للعمل في المصادر الاولية في الطبيعة واستثمارها وهو أمر يستافد من الآيات الماضية وآيات اخرى.
«الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله..» (الجاثية /12)
«هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه» (الملك /15)
وعلى اساس من هذا التصور فان الافراد سوف ينشأون ساعين نحو المال ولكن لا لاجلهم بل لأجل الوصول الى الاهداف الخالدة في ذلك العالم والتي يتم الحصول عليها من خلال الانفاق والاعانة للاخرين والتعاون وايثار المنافع العامة على المنافع الشخصية وبهذا يتم توازن طبيعي وذاتي بين تأمين المنافع الشخصية وتأمين المنافع الاجتماعية واقامة العدالة والتوازن في المجتمع.
وهذا هو التعادل الطبيعي الصحيح لا ذلك الذي ذكره آدم سميت الاقتصادي المعروف في مجال توجيهه للاقتصاد الحر وانه على اساس من الحرية الاقتصادية يسعى الافراد لتأمين منافعهم وارباحهم الشخصية وبالتالي فان ذلك يؤمن المنافع الاجتماعية بذاته.
ذلك ان هذه الحرية الاقتصادية مع وجود مبدأ طلب المنفعة، وبملاحظة التصور المادي والدنيوي عن المال والثروة هو بنفسه يشكل مجالاً لحصول التضاد بين المنافع الفردية والاجتماعية ويحرك الافراد نحو الضمان الاكثر لمنافعهم وارباحهم حتى ولو كان ذلك على حساب منافع الاخرين وباسلوب الاستثمار والضغط والتاريخ القديم والمعاصر للرأسمالية خير شاهد ودليل على هذا الامر.
وطبيعي انه يجب الالتفات الى ان القران والاسلام لا يكتفي - في مجال ايجاد التوازن الاساسي والذي يعد انعدامه اصل المشكلة الانسانية - ولا يكتفي بهذا المعيار والمعايير الاخلاقية والعقائدية الاخرى وانما عمل على تأمينه في الاحكام الحقوقية والاقتصادية التي وضعها.
فان مفاد هذه الاية أن كل ما تحتاجه البشرية بطبعها وخلقها قد وفره الله تعالى في الطبيعة بل ان ظاهر هذه الايات هو ان ما تحتاجه في المستقبل قد وفر في عالم الخلقة ذلك ان العالم من وجهة النظر القرآنية ذو نظام موزون متعادل، وقد توفرت كل الظروف الملائمة لحياة الانسان وحركته وهو المحور الاصلي لعالم الخلقه - واعدت له من قبل.
ولهذا يمكن القول بان القران يقول باصل (التوفر المادي) بدلاً من مبدأ العجز الطبيعي وان هناك توازنا طبيعيا بين ما يحتاجه الانسان والمصادر والنعم الطبيعية المودعة.
اما اذا لاحظنا في بعض المجتمعات او المقاطع التاريخية افراداً يواجهون عجزاً ومشكلات ومصاعب اقتصادية فهذا في الحقيقة لم ينشأ من قله المصادر الطبيعية وانما ينشأ من ظلم الناس وكفران النعمة الالهية والتمرد على الاوامر الربانية وهذا ما يشير اليه المقطع الأخير من الآية: (ان الانسان لظلوم كفّار).
وكون الانسان(ظلوما) في هذه الاية كناية عن ظلم الانسان في التوزيع العادل وكونه (كفارا) كناية عن التبذير بالنعم والاستفادة الخاطئة منها خلافاً للاوامر الالهيه.
ومن معايير المذهب الاقتصادي الاسلامي مبدأ الملكية الحقيقية لله والذي عبر عنه البعض ب(ملكية الله) ومن الطبيعي ان نلاحظ ان المراد من هذه الملكية ليس معناها الحقوقي أي الملكية الاعتبارية والقانونية بل المقصود ه الملكية الحقيقية والفلسفية التي هي عبارة عن الخالقية والاحاطة والسلطنة الحقيقية للمالك على المملوك وهذا المعنى من الملكية انما يصدق في المجال الالهي بالنسبة لعالم الوجود وهي المرتبة الاعلى والاكمل للملكية والقران يؤكد كثيراً على هذا المعنى من الملكية الالهية كثيرا فيقول:
«ولله ما في السموات وما في الارض» (النجم /31)
«وآتوهم من مال الله الذي آتاكم..» (النور /33)
ان المسلم في ظل هذا المعيار مهما حصل على امكانات وثروات على اثر سعيه وكده ولنفرض ان ذلك كان بالاساليب المشروعة العادلة فان ماله يبقى (مال الله) ومتعلقاً بالاصل وبالله وقد وضع تحت تصرفه. وهو - في الاصل - يملك جانب الوكالة والنيابة لا جانب الاصالة والمالكية المطلقة:
«الله الذي خلق السماوات والارض وأنزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الانسان لظلوم كفار» (ابراهيم 14 / 32 - 34)
يوجد في الاقتصاد اصل يسمى بأصل التوفر المادي ويقتضي ان المواد وما يحتاجه الانسان من الطبيعة محدود في حين ان متطلباته واحتياجاته غير محدودة.
وقد جر هذا الاصل بالتدريج بعض الاقتصاديين الى التشاؤم والقلق على مستقبل الانسانية وجعلهم يؤمنون بان البشر في المستقبل القريب سوف يواجه بقلة المواد المطلوبة وخصوصاً في مجال الغذاء حيث انه على اثر كثرة المجموعات البشرية المتراكمة وقلة المواد الغذائية سيصاب الناس بالقحط والمجاعة الامر الذي يدعونا الى التفكر به ومحاولة الوصول الى سبيل للخلاص ومنع هذا النمو السريع في معدلات الولادة والتكاثر.
ويقف مالتوس على رأس هذه المجموعة حيث عرف اتباعه باسم الاقتصاديين المتشائمين.
اما في التصور الاسلامي فلا مجال للاذعان بهذا العجز الطبيعي بالمعنى المذكور بل يستفاد من الاية السالفة وآيات اخرى ان الله تعالى وفر المصادر الطبيعية التي يحتاجها الانسان اكثر مما يحتاجه:
«واتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها»
وهي تدل بصراحة على ان الله تعالى وفر نعماً لا تقبل الحصر والاحصاء للانسان وان كل ما يحتاجه الانسان من نعم وفر له في الطبيعة، والتعبير بالسؤال في هذه الاية يراد به الحاجة والطلب الطبيعي لا الطلب والدعاء لان هذا التعبير جاء في سياق ذكر النعم الالهية التي خلقت جميعاً في الطبيعة لصالح الانسان وجملة:
«وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها..»
ايضا والتي تتلو التعبير السابق شاهدة على هذا المعنى... وعلى هذا
«... وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه..» (الحديد / 7)
«هو الذي جعلكم خلائف في الارض..» (فاطر / 39)
«ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم..» (الأنعام / 165)
ان هذا المعيار بالاضافة لتضمنة قيمة فلسفية صحيحة سامية له دور عظيم في المنع من الطغيان النفسي لمالكي الثروات، وتعلقهم الشديد بالمال والذخيرة وطلب الربح والاستغلال فسوف لن تشكل الثروة والامكانات المادية لديهم معياراً لشخصية الانسان وانما تقيم شخصيته باعتبار قربه من الله وتكامله المعنوي، اما الادخار والامكانات الحياتية فلن تصوغ له شخصية:
«وما اموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من آمن وعمل صالحا...» (سبأ / 37)
وهكذا نجد عموما انه على اساس هذا المعيار تعود الثروة والمال والامكانات والحياة الدنيا كلها ميدانا للبلاء والامتحان الانساني والانسان المسلم هو من يؤدي امتحانه جيدا لئلا يحصل على النتيجة السلبية.
ومن وجهة النظر الحقوقية فان هذا المعيار له اثار دقيقة ذلك ان المستفاد من هذه الآيات هو ان الله وهو المالك الحقيقي لثروات العالم قد جعلها جميعاً لجميع الناس ليستفيدوا منها بالسبل الصحيحة دون ان يخصها بافراد معينيين لا يحصل أي تغيير او تبديل في مالكيتهم هذه، واذا كان هناك نوع من التخصيص لبعض الاموال باشخاص معينين فان ذلك ايضا باذن منه تعالى وفي اطار الحدود والمقررات. والاصل الذي يجب ان يلحظ في البين وتستفاد منه القوانين الفرعية والجزئية هو ما اشرنا اليه من ان مجموع الثروات الاجتماعية هي في الاصل تتعلق بكل المجتمع وان المصالح الخاصة للافراد انما تراعى وتحترم في اطار المصالح العامة للمجتمع فاذا تم تعارض بين المصالح الفردية والاجتماعية فان الاخيرة بلا ريب هي المقدمة ومن الممكن ان يكون الشاهد على هذه المسألة الحقوقية هي الآية الشريفة:
«ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما..» (النساء / 5)
ذلك ان هذه الاية تضيف اموال القاصرين الى المجتمع وهذه كناية عن ان الاموال في الاصل تتعلق بكل الناس ولا يمكن ان يكون اختصاصها باشخاص مؤديا - اثر قصورهم - الى فناء حق المجتمع بحيث لا يمكن لاولئك ولا للاخرين الاستفادة منها.
«فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (الروم / 30)
«نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون» (الزخرف / 32)
اولا - ان أي نظام اجتماعي يجب ان ينسجم مع الفطرة والا فستواجهه المشكلات ويعتوره التغيير والنزاع والصراعات وبالتالي سوف يدخل البشرية في عالم الضياع والازمات.
ثانيا - ان المذهب الاسلامي يشتمل على نظم منسجمة مع الفطرة الانسانية ذلك لان هذه النظم شرعها خالق الانسان المطلع على خلقته وفطرته فهي بلا ريب منسجمة معها ووفقا لحاجتها واستعدادها واهداف خلقتها.
ثالثا - يستفاد من الاية الثانية ان أصل التفاوت بين الافراد في الامكانات والدخل واحتياج بعضهم لبعض امر فطري وضروري بدونه لا يستطيع ان يقوم أي مجتمع انساني على سوقه وفي آية اخرى يقول:
«والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون» (النحل / 71)
«ولا يأتل اولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا اولي القربى» (النور / 22)
الا ان هذا التفاوت وهو ضرورة طبيعية يجب ان لا يعتبر مطلقاً معياراً للتفاضل في الشخصية والحقوق والاختيارات والامتيازات لدى الافراد بالنسبة لبعضهم البعض، انه لن يكون - في ظل المعايير السابقة - منشأ لحدوث الطبقات المختلفة والصراع بينها، او تمركز الثروة والمشكلات الاقتصادية الاخرى.
«.. كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم..» (الحشر / 7)
هذه الاية الشريفة الواردة في ذيل اية الفيء تجعل علة توزيع بعض الغنائم على الفقراء والمساكين هي عدم تمركز الثروة بفئة - من الاغنياء في المجتمع وهي الحقيقة توضح هدفاً اصيلاً اقتصادياً سامياً.
ذلك ان الاسلام في نفس الوقت الذي يقبل فيه الاختلافات بين الافراد من حيث الرزق والدخل ويعتبرها امراً طبيعياً بل ضرورياً ويعتبر منبعها اختلاف الافراد في الطاقات والاستعدادات الذاتية والظروف الخارجية فهو يقف بوجه تمركز الثروة وتداولها بيد مجموعة معدودة من الاغنياء ذلك لان هذا يؤدي الى اختلال التوازن وايجاد الفواصل الكبيرة بين فئة الاغنياء الفئات الاجتماعية الاخرى مما يخل بالعدالة الاجتماعية ويتسلل من خلاله الفقر والحرمان بالتدريج الى المجتمع ويقوده بالتالي الى الضياع.
والحقيقة هي ان ما يستفاد من هذه الاية الشريفة وبعض الايات الاخرى ليس تساوي الافراد في الملكية والدخل ذلك لان آيات اخرى قد دلت بصراحة على قبول اصل الاختلاف والتفاوت بين الافراد في المجتمع الى الحد الذي اعتبره ضرورة اجتماعية. وانما المقصود من هذه الاية هو نفي تمركز الثروة وتداولها بين الاغنياء فقط وهو في الحقيقة معيار لتشخيص مدى عدم سلامة المجتمع الذي يمتلك مثل هذا الوضع الاقتصادي.
ولما كانت هذه الاية الشريفة قد جاءت في مقام التعليل فهي تدل على ان هذا المعيار هدف اصيل يلزم اتباعه حيث تكلف الدولة الاسلامية في الموارد التي تشخص فيها ان استفادة الافراد من الامكانات والفرص المتاحة في القطاع الخاص سوف يؤدي الى التفريط بهذا الهدف أي التوازن الاجتماعي، ان تقوم بالمنع من ذلك، كما تلحظ هذا المبدأ دائما في سياساتها الاقتصادية وتخطيطاً للمستقبل.
وطبيعي ان الاية الشريفة لم تضع تعريفاً واحداً للتوازن الا انه من المنع من تداول الثروة بين الاغنياء فقط يستفاد ان ما يرمي اليه القرآن الكريم هو المنع من تمركز الثروات والاموال في قطاع خاص وطبقة معينة بل يجب توزيعها بين العموم مع مقدار من الاختلاف والتفاوت وهذا ما يمكنه ان يكون افضل تعريف للتوازن في الاقتصاد الاسلامي.
ومن الأهداف الأساسية الأُخرى للاقتصاد الاسلامي، هو الاستقلال وعدم التبعية للكفَّار والأعداء. وقد ورد مبدأ الاستقلال وعدم التبعية، بل وأَفضلية المجتمع الاسلامي على المجتمعات الأخرى غير الاسلامية، في آيات كثيرة من القرآن الكريم، من جملتها:
«فلا تهنوا وتدعوا الى السلم وأنتم الأعلون، واللّه معكم ولن يتركم أعمالكم» (محمد - 35)
«محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل، كزرع اخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما» (الفتح - 29)
«ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» (النساء - 141)
«يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» (الممتحنة - 1)
«وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» (الانفال - 60)
«الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ايبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا» (النساء - 139)
«ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» (المنافقون - 8)
ومع ان هذه الآيات جاءت في موارد ومناسبات متعددة، لكنها وبشكل عام تشير الى موضوع مشترك الا وهو ان المجتمع الاسلامي هو مجتمع الهي يتمتع في داخله بالقوة والقدرة والانسجام والروابط الاجتماعية العادلة والمتواضعة، غير انه قياساً الى الخارج يتمتع بالاستقلال، والأفضلية، والعزة، والتعامل بشدة مع الأعداء، وعدم الاستسلام لهم مطلقاً، بل وعدم التعاطف معهم أو الارتباط بهم.
وهذه الصفة في هذه الآيات والآيات الكثيرة الأخرى وإِنْ لم تخص المسائل الاقتصادية، لكنها تشمل في الوقت نفسه، الجانب الاقتصادي للمجتمع الاسلامي والذي يعتبر من أهم الجوانب، بل وأساساً للمجتمع. ويمكن القول ان انعدام الاستقلال والارتباط بالكفار، يجعلان المجتمع الاسلامي يفقد استقلاله من كافة الجوانب، ويخضع لسلطة الكفار السياسية والثقافية. ولذلك فان تحقيق هذا الهدف العظيم والخطير الذي يؤكد عليه القرآن بشدة يتوقف على الاستقلال وعدم التبعية الاقتصادية. وان أَي تسامح وتقاعس في هذا الأمر، يشكل - لا محالة - خطراً جدِّياً على استقلال المجتمع الاسلامي في مختلف الأَبعاد.
رغم ان القرآن الكريم لا يبيِّن في الوهلة الأُولى، أَصل الملكية، وانواعها الحقوقية في المذهب الاقتصادي الاسلامي، إِلاَّ اننا نستطيع ان نفهم من مجموع الآيات الكثيرة، أَصل تعدد الملكية، أَي الملكية الخاصَّة، والملكية العامة. ومن جملة تلك الآيات:
1 - «وهو الذي أنشأَ جنَّات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً اكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمر اذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده،» (الأنعام - 141)
فبعد ان يشير سبحانه وتعالى في هذه الآية الى النعم التي أَنعمها على عباده في المجال الزراعي، فانه يدعو للانفاق واعطاء حق الله الذي هو الحق العام. وما يبقى يكون من اختصاص المالك نفسه. وهذا يدل على الملكية الخاصة لتلك الاشجار والاراضي الزراعية بعد اعطاء الحقوق الشرعية. ويتمثل مورد من موارد الملكية الخاصة بالعوامل الانتاجية.
2 - «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت اكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهرا * وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأَعز نفراً * ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظنّ أن تبيد هذه أَبداً * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لاجدنّ خيراً منها منقلباً * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً * لكنّا هو الله ربي ولا اشرك بربي أحداً * ولو لا اذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة الا بالله ان ترن انا اقل منك مالاً وولداً * فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً» (الكهف / 32 - 40)
يضرب الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات مثلاً للناس اذ يقول ان الناس حين يصلون الى النعم، وتوضع تحت اختيارهم الاشجار والثمار، فانهم يغفلون عن الله متصورين انهم هم الذين خلقوا تلك الاشياء، وبذلك يكفرون بالله ويتكبرون على الآخرين وينسون الحقائق. ويشير القرآن في هذه الآيات الى حوار بين شخص أَنعم الله عليه بالشجر والثمر، ولكنه لم يعد يعي واقعة نتيجة لهذه النعمة الالهية، ونسى خالقه، وبين شخص آخر مؤمن بالله..... وكيف يتصور ذلك المالك ان امواله خالدة، وكيف انه يتكبر على ذلك الرجل الفقير، وكيف ان الرجل الفقير يجيب على ادعاءات المالك بأدب وايمان ويحدد نقاط ضعفه.
وهذه القصة وان جاءت كمثل، لكنها تدل على اصل الملكية الخاصة للاشجار، حيث ان هذه الامثال جاءت درساً للمسلمين، وظاهر الآية ان امتلاك الاشجار هو في حد نفسه يخلو من الاشكال، لكن الذي يستشكل عليه هو كفران النعمة والابتعاد عن الله وتعاليمه.
3 - «يا أبت استأجره انّ خير من استأجرت القوي الأمين» (القصص - 26)
هذه الآية وردت بخصوص تأجير الانسان مقابل الأجور، أو بخصوص العلاقة بين العامل ورئيسه.
ورغم ان الآية تتحدث عن امر وقع بين موسى وشعيب (عليهما السلام)، الا ان اشارة القرآن الى هذه المسائل التي تتضمن معايير حقوقية، انما تدل على قبول تلك المعايير، شريطة عدم وجود قرينة على اختصاص تلك المعايير بالأمم والاديان السابقة. ولذلك يستنبط من هذه الآية انها تتحدث في الجملة عن اصل قبول العلاقة الحقوقية بين المالك والاجير.
والملاحظة الأخرى المذكورة في الآيات الآنفة وكثير من الآيات الأخرى التي تدل كل واحدة منها على الملكية الخاصة، هي ان هذه الآيات تتحدث عن الملكية الخاصة وعوامل الانتاج التي تشكل أَهم نقاط الاختلاف في وجهات النظر الاساسية بين المذاهب الاقتصادية، وهي بالتالي من أَهم أُسس نظام اقتصادي ما.
ولا ننسى هنا بان هذه الآيات تبين في الجملة أَصل الملكية الخاصة فقط، وليس الملكية المطلقة، اذ ان هذه الآيات الشريفة - وكما قلنا مسبقاً - ليست بصدد بيان ابعاد الملكية الخاصة، لنستنتج منها قاعدة كلية. ولكي نتعرف على أَبعاد الملكية الخاصة واسبابها وحدودها، علينا ان نراجع المصادر الفقهية الأُخرى، أَو بالأحرى الأحاديث والروايات المعتبرة.
وتوجد الى جانب الآيات المذكورة، آيات اخرى تدل في موارد متعددة على نوع الملكية الثانية، وبعبارة اخرى الملكية العامة، من جملتها:
1 - «يسألونك عن الانفال، قل الأنفال لله والرّسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين» (الأنفال - 1)
«الأنفال «جمع «نفل «وتعني «الزيادة» بالمفهوم العامة للكلمة. لكنها جاءت هنا بمعنى الأموال والثروات الفائضة عن حاجة الناس.
وهذه الآية نزلت على الرسول الأكرم (ص) بعد معركة بدر. ويستفاد من ظاهر الآية انه بعد انتصار المسلمين على الكفار في معركة بدر، والاستيلاء على غنائم الكفار، ظهرت خلافات في وجهات نظر المسلمين ازاء تلك الغنائم حيث كانوا يتساءلون عن الجهة التي يحق لها التصرف بتلك الغنائم. ويحتمل ان وقع صراع بينهم حول تلك الغنائم. هذا ما نفهمه من ذيل الآية «وأصلحوا ذات بينكم». ومن هنا حدَّد سبحانه وتعالى في هذه الآية نوع ملكية الانفال، حيث يؤكد ان الانفال لله والرسول وعلى المسلمين ان يطيعوا أمر الله ورسوله.
وتكمن في الآية الشريفة من الناحيتين الحقوقية والفقهية، ملاحظات قيِّمة ومهمة:
1 - مثلما قلنا، فان المراد من «النفل» هو (الزيادة)، ولكن المراد من هذه الكلمة في الآية هو الغنائم التي استولى عليها المسلمون في معركة بدر، حيث انها كانت تعود للكفار ولكن المسلمين استولوا عليها خلال الحرب بعد ان دحروا الكفار. اذن فان تلك الغنائم كانت زائدة، وتَّم التعبير عنها بالانفال.
وهذا لا يعني بان المراد من الأنفال في الآية الشريفة هو الغنائم الحربية فقط، اذ ان الغنائم هي بحد ذاتها مورد من موارد الانفال. وان الانفال تشمل بشكل تام الاموال والمصادر الأولية التي لم توضع لحد الآن تحت اختيار أَي شخص، بالضبط مثلما جاء في الروايات المعتبرة الواردة في خصوص تفسير هذه الآية.
2 - قيل ان الأنفال لو كانت تشمل الغنائم، وتعود لله والرسول بحكم هذه الآية، فلا معنى حينئذ لخمس الغنائم في آية «واعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسة وللرسول»، ذلك ان ظاهر الآية هو ان أربعة أخماس الغنائم هي أموال شخصية، وان خمساً منها تعود لله وللرسول، في حين ان آية الانفال تنص على ان جميع الغنائم يجب ان تكون من اختصاص الله ورسوله. وبذلك يظهر تناقض بين هاتين الآيتين الشريفتين.
ونرد على هذا الاشكال بالقول انه لا يوجد أَي تناقض بين هاتين الآيتين، ذلك ان سورة الأنفال تنص على ان الغنائم الزائدة والمكتسبة عن طريق الحرب مع الكفار، هي من اختصاص الله ورسوله، وان تقسيمها يتم بموافقة رسول الله (ص). فاذا سمح فان المسلمين يستطيعون ان يأخذوا لهم شيئاً من تلك الغنائم، على ان يدفعوا خمس ما حصلوا عليه من الغنائم الى رسول الله (ص). وهذا الأمر ورد أيضاً في بعض رواياتنا عن أهل البيت(ع). كما جاء حول آية الانفال بان الخلافات بين المسلمين ظهرت حين شجع الرسول الأكرم(ص) المسلمين وخاصة الشباب منهم خلال معركة بدر مؤكداً لهم بان من يقتل عدداً معيناً من الكفَّار والمشركين، فإِنَّ جزءاً من الغنائم يوضع تحت اختياره للتصرف به. وهذا الأمر دفع بالرسول (ص) لكي يقسِّم الغنائم بين المهاجمين، ولذلك لم يبق شيئاً من الغنائم للاشخاص الذين كانوا يتواجدون في الخطوط الخلفية من الجبهة ولم يؤمروا بخوض المعارك، بل كانوا يحرسون النبي(ص). وبذلك قالوا للرسو ل (ص) انهم كانوا مستعدين للقتال ومن حقهم الاستفادة من الغنائم. ومن هنا جرت مناقشات بين البعض، ثم نزلت سورة الانفال وهي تدعو لاطاعة الرسول ووضحت لهؤلاء بأن تلك الغنائم هي - في الأصل - «أنفال» فائضة عن هدف الحرب، وان مثل هذه الاموال تعود لله ولرسوله.
ولذا فإِنَّ ملكية رسول الله لمجموع الانفال بما فيه الغنائم، لا تتناقض مع الملكية الخاصة للغنائم في حالة موافقة الرسول(ص) وتعيينه سهم كل شخص.
3 - والمراد من «اللام» في «لله والرسول» هو الملكية الاعتبارية (الحقوقية) وليس الحقيقية (الفلسفية) بقرينة انعطاف «رسول الله» على «الله». وان السؤال كان يدور حول الملكية الاعتبارية والحقوقية للغنائم.
واستناداً الى ان المراد من اللام في الآية هو الملكية الاعتبارية والحقوقية، فاننا نفهم من ظاهر الآية بان الانفال تتواجد ضمن ملكية الحكومة الاسلامية، بعبارة أُخرى ملكية ولي الأمر والقائد، ذلك ان الملكية الاعتبارية لله لن تكون ذات معنى فيما لو لم نأخذ بنظر الاعتبار حاكميته الحقوقية. واما ما يكون معقولاً ومناسباً في هذا السياق فيتمثل بالملكية الاعتبارية لمقام القيادة وولاية الأمر التي هي في الاصل لله، ومن ثم لأَي شخص يُعيَّنُ أو يُنْصبُ من قبله تعالى:
«قال اني جاعلك للناس اماما» (البقرة - 124)
وبذلك فان هذه الآية الشريفة تمثل اكبر سند فقهي على النوع الثاني من الملكية، أي ملكية الدولة الاسلامية لجميع المصادر الطبيعية قبل ان توضع بشكل مشروع تحت اختيار أَي كان. وهذا هو اصل اساسي وهام يستطيع ولي الأَمر استناداً اليه ان يتصرف وفق سياسة سليمة بجميع المصادر الطبيعية خدمة لأهداف الاقتصاد الاسلامي، ويقوم بالحيلولة دون تمركز الثروة أو اختلاسها من قبل الأفراد. وهذه المسألة تعتبر اكبر صلاحية تفوَّضُ الى ولي الأمر والدولة الاسلامية من الناحية الحقوقية.
3 - «وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكنّ الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم...». (سوره الحشر / 6 - 7)
وهاتان الآيتان تتحدثان بدورهما عن الغنائم التي يحصل عليها المسلمون من الكفار دون وقوع حرب أو اراقة الدماء ، ويعبِّر عنها القرآن ب(الفئ) أي الاموال المعادة. وهذه الكلمة هي كناية للأموال الموجودة بيد الكفار، والتي هي في الأصل تعود لله والرسول والمؤمنين، أَي انها لم تخصص للكفار والطواغيت.
والآية الأولى تتحدث في الظاهر مثل الآية التي تتطرق الى الانفال عن ملكية مقام قائد المجتمع الاسلامي، أَي ان مقام الأَمامة له ملكية جميع الأَموال والثروات التي تقع بيد المسلمين من دون حروب أَو اراقة الدماء. ورغم انها نزلت على الرسول الأكرم(ص) بخصوص الغنائم التي تم الحصو ل عليها من اليهود الذين كانوا يسكنون في ضواحي المدينة، لكنها في نفس الوقت لا تختص بهذا المورد فقط، بل تشمل جميع أَموال وثروات المجتمعات غير الاسلامية التي من الممكن ان تقع بيد المسلمين، ذلك ان مورد الآية ليس مخصصاً لاطلاقه، بل ان ذيل آية «فما أَجفتم عليه من خيل ولا ركاب» له ظهور في التعليل ويمكن استنباط قاعدة كلية منه بحيث نقول ان الأَموال والثروات التي لا يتم الحصول عليها عن طريق السعي والعمل، تعود في الأَصل الى الله ورسوله أَي انها خاصة بمقام الامامة والقيادة. وبذلك يتطابق هذا المعنى مع ما ورد في الآية التي تتحدث عن الانفال والتي تنص على ان جميع الثروات الطبيعية التي لم يتم الحصول عليها بواسطة العمل والسعي الفردي، هي من اختصاص الدولة الاسلامية، تتصرف بها وفق المصلحة الاسلامية.
اما الآية الثانية وضمن تعيينها لملكية الفئ، تقوم بتحديد الموارد التي تصرف فيها مثل هذه الأموال. وطبيعي ان الدولة الاسلامية هي التي تتكفل بها.
ويستفاد من هذه الآية الشريفة بان مكافحة الفقر، وتلبية حاجات افراد المجتمع، وايضاً الحيلولة دون تمركز الثروة، وايجاد التعادل... كل تلك الاشياء تشكل أحد الهداف المهمة للاقتصاد الاسلامي مما يتطلب على الدولة الاسلامية السعي لتحقيقه، اذ انها مكلَّفة للسير في هذا الاتجاه من خلال الامكانات الموضوعة تحت اختيارها. وهذا ما اشرنا اليه مسبقاً.
ونفهم من مجموع ما دار في هذا الجزء من البحث بان النظام الاقصادي الاسلامي إَستناداً الى وجهة نظر القران الكريم يقبل في الجملة الملكية الخاصة وحتى في عوامل الانتاج، وان الجزء الأعظم من ثروات المجتمع يعد من ضمن الملكية العامة ويقع تحت اختيار الدولة الاسلامية، بل ان جميع المصادر الطبيعية والأموال التي لا يتم الحصول عليها بالسعي والعمل أو الأموال التي ليس لها مالك تكون من اختصاص الدولة الاسلامية التي يجب عليها ان تستخدم تلك الاموال لتحقيق الأهداف التي يرمي اليها الاسلام وعلى رأسها مكافحة الفقر وايجاد التعادل في المجتمع. وبدلك فان الملكية في الاقتصاد الاسلامي لا تشبه لا الملكية الخاصة ولا الملكية العامة، بل انها كانت منذ البداية ملكية مزدوجة وعلى مرحلتين. وهذا ما يبين لنا اصالة النظام الاقتصادي الاسلامي قياساً الى النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
ويتضح لنا من خلال هذا البحث انه يجب عدم تشبيه النظام الاقتصادي الاسلامي بأيٍ من النظامين المذكورين، لأَنَّ وجود بعض التشابهات ليس دليلاً على تشابه النظام الاقتصادي الاسلامي مع النظامين المذكورين.
ان الحرية الاقتصادية لها مكانها في مجموع النظام الاقتصادي الاسلامي، اذ ان الاسلام يعير اهمية خاصة للحرية، ثم ان احد الامتيازات الاساسية للانسان على سائر الموجودات الاخرى هو انه موجود حر الارادة يستطيع ان ينتخب طريقه الصحيح بنفسه. وهذه الحرية تشمل حتى الحرية الاقتصادية والحرية الحقوقية. ولذا فان العقيدة الاسلامية تنظر الى اصل الحرية الحقوقية على انه حق اساسي. يقول الامام علي (ع) بهذا الصدد:
«لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حرا»
واستنادا الى هذه النظرة الاسلامية فان الافراد يتمتعون بنوع من الحرية الاقتصادية في مجال الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية ليتمكنوا على ضوء هذا المبدأ القيِّم من التحرك بكل حرية واختيار نحو الأهداف السامية، ذلك ان تحقيق الانسان لأهدافه النهائية والمتمثلة بالكمال وقربه من الله لا يتم ما لم يكن الانسان حر الارادة، حيث ان سلب الحرية منه وتحديد جميع علاقاته وروابطه كما يفعل الاقتصاد القائم على الأسس الماركسية، يجعلان من الانسان آلة.
طبيعي ان هذا الحق الأصيل، أو بعبارة أُخرى الحرية الاقتصادية في الاسلام، لا تعني الفوضى واللامبالاة، فالى جانب الحرية الاقتصادية التي تُمنح للافراد، توجد قوانين وحقوق لحفظ وحراسة المصالح العامة.
وهنا نورد بعض الآيات القرآنية التي تشير الى الحرية الاقتصادية:
1 - «فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله» (الجمعة - 10)
وتشير هذه الآية وكثير من الآيات الأُخرى الى حرية أَفراد المجتمع في تحصيل الثروة، وأيضاً حرية الأفراد في انتخاب المهنة، بل وتشجيعهم وحثهم على الانتاج والاستفادة القصوى من المصادر والنعم التي وضعها الله تحت اختيارهم.
وان اكثر الآيات القرانية تعبرِّ عن تحصيل الثروات والاستفادة من المصادر والثروات الطبيعية ب «فضل الله « أوَ نعمه» مما يساعد هذا الأمر على تشجيع النشاط الاقتصادي ونموِّ الانتاج، بل واعارتهما أَهمية خاصة، وربطهما بالله ليأخذا طابعاً إِلهياً وعبادياً.
2 - «الا أن تكون تجارة عن تراض..» (النساء - 29)
تشير هذه الآية بدورها الى حرية التبادل التجاري وتشجيعها، مما تبيِّن بعداً آخر من الحرية الاقتصادية. وطبيعي ان التبادل في الاقتصاد الاسلامي يشكل جزءاً من الانتاج وذلك حسب بعض احكام التبادل من مثل تحريم الربا، والعائدات التي تكتسب بواسطة القمار والسحر والشعوذة والتي أَشرنا اليها في الآيات المسبقة.
3 - «قل من حرَّم زينة الله التي أَخرج لعباده والطيبات من الرزق...» (الاعراف - 32)
«فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه...» (الملك - 15)
«يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم...» (المادئة - 87)
يستفاد من هذه المجموعة من الآيات ان حرية الاستهلاك لها حدودها المعيَّنة، وهي تشكل بعداً آخر من الحرية الاقتصادية في النظام الاقتصادي الاسلامي.
مثلما قلنا في القسم الماضي من البحث، فان النظام الاسلامي وضع حدوداً للحريات الاقتصادية، نشير الى جملة منها:
ان تحصيل الثروة سواء أَكان عن طريق الانتاج، أو عن طريق التبادل والذي يشكل جزءاً من الانتاج حسب وجهة نظر الاسلام، له حدوده الخاصة به. على سبيل المثال لنتأمل في الآية التالية:
«ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...» (البقرة - 188)
ويستفاد من هذه الآية الشريفة بان النشاطات الاقتصادية الرامية لتحصيل الثروة، يجب ان تكون مشروعة، أَي ان الثروة التي يحصل عليها الانسان يجب ان لا تكون متأتية عن طريق الظلم والغصب والاعتداء على حقوق الآخرين أو عن طرق أخرى غير مشروعة.
ان فقهاء الاسلام يؤكدون باستمرار على هذه الآية، ويعلنون بطلان المعاملات والاتفاقيات التي تفتقر الى الأَسس السليمة والتي تمثل من وجهة نظر الشرع أَكل المال بالباطل. ولذا فان الثروة يجب ان تكون متأتية عن طرق مشروعة.
تؤكد الآية الشريفة انه لا يجوز الحصول على الثروة عن طريق الغصب والنهب والاعتداء على حقوق الافراد والمجتمع. حيث ان أَي نشاط انتاجي أو تجاري يؤدي الى ظلم المجتمع وتضييق الخناق عليه، لا يمكن السماح به مطلقاً، كما وتترتب عليه عقوبات معينة، وعلى الحكومة الاسلامية ان تقف بوجه مثل هذه النشاطات اللامشروعة.
كما ويمكن الاستفادة في هذا المجال من آية: «ما جعل عليكم في الدين من حرج»
«الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس...» (البقرة - 275)
يؤكد القران الكريم في هاتين الآيتين وآيات أُخرى على عدم جواز تحصيل الثروة من خلال منح القروض للآخرين والذي يعبِّر عنه ب «الربا» ، أَي الثروة الزائدة التي لم يبذل الانسان أَي جهد في الحصول عليها.
وطبيعي ان هناك بحوثاً كثيرة حول حرمة «الربا» والأسباب الاقتصادية لهذه الحرمة، غير ان المجال هنا لا يتسع للتطرق الى هذه المسألة بالتفصيل، ومع ذلك يمكن القول بشكل اجمالي ان تحريم الربا يلعب دوراً كبيراً في تحطيم اكبر دعائم النظام الرأسمالي الاستغلالي، وتفويض الدور الاساسي في الاقتصاد وتحصيل الثروة الى النشاط الاقتصادي، والحد من تمركز الثروة بيد الرأسماليين.
هذه الآية تطرح مسألة جديدة وهي حرمة كنز المال، من أَجل ان تبقى العجلة الاقتصادية في المجتمع في حالة حركة مستمرة.
وطبيعي ان المقصود من هذه الآية هو حرمة كنز الذهب والفضة، أَي الأموال الحقيقية، وعدم دفع ما يترتب عليها من الزكاة. وتزول الحرمة فيما لو أُعطي الزكاة. إِلاَّ ان الزكاة المترتبة على الذهب والفضة، هي ضرائب مستمرة تؤخذ كل عام لكي لا يزيد مقدار الذهب والفضة عن الحد المقرر وهو عشرون مثقالاً من الذهب و105 مثقال من الفضة.
وكما قلنا قبل قليل فان الهدف من هذه التمديدات هو الحيلولة دون حصول الركود الاقتصادي الذي ينشأ عن تجميد الأموال وابعادها عن مجموع الحركة الاقتصادية. وعلى الدولة الاسلامية ان تأخذ هذا المعيار الاقتصادي بنظر الاعتبار لتقوم بالحيلولة دون كنز الاموال وابعادها عن الحركة الاقتصادية للمجتمع من جانب اصحابها.
ويجب ألا ننسى بان هذه التحديدات تقتصر على الاموال الحقيقة، أي الذهب والفضة، ولكنها لا تصدق على الاموال الاعتبارية الرائجة في هذا الزمان، اذ ان هذا النوع من الأموال يستلزم قوانين أُخرى، لا يتسع المجال لنا هنا في التطرق اليها.
«ويل للمطففين * الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون * واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون» (المطففين / 1 - 3)
هاتان الآيتان تشيران بدورهما الى حرمة أ ي نشاط اقتصادي في المجالات المحرَّمة والذي يعبر عنه الفقه الاسلامي بالمكاسب المحرّمة مثل تحصيل الثروة عن طريق القمار أو انتاج وبيع الخمر، وسائر الثروات التي يتم الحصول عليها بطرق غير شرعية... وبذلك يسعى الاسلام ان يجعل من الانسان موجوداً يحظى بالقيم الساميُة، وأيضاً بالطهارة والشرف.
وهذه الآية تؤكد بدورها على وجوب عدم تمركز الثروة بيد فئة قليلة من الاغنياء. وعلى الدولة الاسلامية ان تسعى لتحقيق هذا الأمر. ونفهم من الآية انه اذا أدَّى النشاط الاقتصادي في القطاع الخاص الى تمركز الثروة بيد الاثرياء أو مؤسسة خاصة فعلى الدولة الاسلامية ان تقوم بالحيلولة دون حصول هذا الشيء. وهذا الأمر يشكل هدفاً اساسياً في النظام الاقتصادي الاسلامي.
هناك حدود في النظام الاقتصادي الاسلامي حول كيفية استهلاك الثروات، ومن جملتها:
1 - «... وكلوا واشربوا ولا تسرفوا...» (الأعراف - 31)
فهذه الآية تحدِّد حرمة الإِسراف في الاستهلاك
2 - «... يحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث...» (الأعراف - 157)
«... والطيبات من الرزق...». (الأعراف - 32)
وهاتان الآيتان تحددان من جانبهما حدود استهلاك الطيبات والتي تعني المواد الطاهرة والمحللة.
3 -«... كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي...» (طه - 81)
تشير هذه الآية الى النوع الثالث من حدود حرية الاستهلاك، فهي تدعو الى عدم الطغيان أَو اعتداء الانسان على نفسه والآخرين والحاق الضرر بهم.
ويتمثل النوع الآخر من الحدود الاقتصادية في النظام الاقتصادي الاسلامي ، ب «اصل الملكية الشخصية«. فالاسلام يرى ان مثل هذه الملكية لا يمكن لها ان تدوم، حيث انها تنتهي مع موت الانسان، ولا يمكن لأَي كان ان يتخذ قراراً حول مستقبل جميع الأموال التي سيتركها بعد موته، بل يستطيع ان يتخذ قراراً حول ثلث أَمواله فقط، لان الثلثين الآخرين يوزعان - وفقاً لنظام الوراثة الواردة في الآيات القرآنية - على أَفراد عائلة الشخص أو أَقربائه. وهذا ما يؤكد لنا وجود نوع من حدود الملكية الشخصية والاشراف عليها، وهو يؤثر في عملية التوزيع المجدد للثروة.
يوجد في النظام الاقتصادي الاسلامي نوعان من الضرائب:
آ - الضرائب الواجبة، مثل: الخمس، والزكاة، والكفارات.
«واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول.....» (الأنفال - 41)
«وفي أموالهم حق للسائل والمحروم» (الذاريات - 19)
«... وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية...» (الرعد - 22)
«... والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله....» (التوبة - 34)
«... فكفارته اطعام عشرة مساكين....» (المائدة - 89)
ب - الضرائب المستحبَّة، مثل: الانفاق، والصدقة، والخيرات، والمبرّات، والموقوفات والتي تشكل قسماً عظيماً من الميزانية العامة لبيت المال والأموال العامة. وعلى هذا الأمر تؤكد آيات كثيرة من القرآن الكريم.
وهذه الضرائب المستحبَّة والواجبة تلعب دوراً هاماً في تأمين الميزانيات الحكومية، والمصروفات العامة، والتوزيع المجدد للثروة في المجتمع. وخير دليل على ذلك هو ما حصل ويحصل للمجتمعات الاسلامية.. فرغم ان الأسواق التجارية في هذه المجتمعات كانت ولا تزال تحظى بنوع من الحرية، الا ان تلك المجتمعات لم تواجه قط المشاكل والأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الغربي، كما ان افراد المجتمع الاسلامي لم يواجهوا التناقضات والمشاكل المستعصية التي يعاني منها العالم الغربي منذ قرون... كل ذلك بفضل الانفاق (الواجب والمستحب) أو الموقوفات والخيرات.
«يا أيها الذين امنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم» (النساء - 59)
« خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها» (التوبة - 103)
تشير هاتان الآيتان الى مجالين يختصان بالدولة الاسلامية، وهما:
فاما صلاحيات الدولة الاسلامية فهي عبارة عن:
آ - توضع الامكانات المادية المذكورة في الآيات السابقة والتي تتكون من : الانفال، الفيء، الغنائم، الزكاة، الخمس، وغير ذلك، تحت تصرف الدولة الاسلامية، وتشكل بمجموعها ثروة عظيمة للمجتمع.
ان وضع هذه الامكانات بل كل الثروات الطبيعية تحت تصرف الدولة الاسلامية أمر يساهم في تقويتها بحيث يجعلها تتدخل وبصورة مباشرة في الشؤون الاقتصادية. واستناداً الى المعايير المذكورة، فان الدولة الاسلامية تستخدم هذه الامكانات من أجل ترسيخ أَهدافها الاقتصادية في مجالات: الانتاج، وتبادل السلع، والتوزيع، والاستهلاك.
ب - الاختيارات القانونية: تعتبر الدولة الاسلامية طبقاً للآيات المذكورة في بداية هذا القسم- واجبة الاطاعة من الناحية القانونية، ويحق لها ان تمنع أَو تضع سياسة اقتصادية واجتماعية معينة من أجل الحفاظ على نظام المجتمع الاسلامي وتنفيذ الأهداف المرسومة وكذلك من أجل ضمان الاحتياجات العامة وتنفيذ الواجبات الملقاة على عاتقها. و لا يحق للمسلمين مخالفة قوانين ومقررات الدولة الاسلامية، اذ ان الوقوف بوجه تلك القوانين والمقررات يعتبر تمرداً على أَحكام الله.
ويمكن ان نلخص واجبات الدولة الاسلامية من الناحية الاقتصادية بنقطتين:
1 - ضمان احتياجات المجتمع، ومكافحة الفقر والحرمان بأساليب اساسية وليس فقط عن طريق الاعانات والامدادات المقطعية والموقتة، كتأمين الأرضية اللازمة للعمل وتوفير الدخل لكل القادرين في المجتمع.
2 - تثبيت الأهداف الاقتصادية المذكورة في القسم الأول، أي ايجاد التعادل واقامة العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات والدخل، والاستقلال وعدم التبعية من الناحية الاقتصادية.
وفي هذا القسم تحتاج الدولة الاسلامية الى تخطيط سليم واتخاذ سياسات اقتصادية موسعة، وقد تتدخل - أَحياناً - في الشؤون الاقتصادية، وفي تشكيل الأجهزة والأقسام الانتاجية وأَقسام التوزيع وخاصة فيما يتعلق بالمنتوجات الرئيسية والتبادل الخارجي.